الإعلام بين الفرد والمؤسسة

26 جمادى الثانية 1439 الموافق 2018.03.14
في سياق مناقشة عجلى لقضية يسيرة وبدهية، ولكنها قد تخفى على كثير من المتلقين، فإنه من المفارقة القول بأن الإنسان منذ وجوده ووعيه على ما حوله من محيط عالمه، ثم إدراكه لأهمية الحفظ والتوثيق لأحداث حياته بعد ذلك، ومن ثمّ مشاركتها مع غيره من سكان الكوكب المعاصرين، أو الآتين تالياً، فقد قام الإنسان بهذه المهمة كاملة كفرد في بادئ الأمر، حيث تم ذلك في ارتجال بحت، وحرية مطلقة، إذ وقف هذا الإنسان أولاً على رؤوس الجبال، يصرخ مبشراً أو منذراً، ثم تطور بعد ذلك فأصبح نافخاً لبوقه، أو قارعاً للأجراس، وليتنبه بعد ذلك إلى وجوب ترميز أصواته، فيكتب على جدران الكهوف والمقابر، ويحرر النصوص اليسيرة على الرقاع، كل ذلك قام به كفرد، يرتجل دائماً، دون قانون مدون، أو نمط متفق عليه، ليكون له بذلك وجهه الخاص، ونمطه المميز.

واستمر ذلك الأمر ما لا يحصى ولا يعرف على وجه الدقة من عمر التاريخ، حتى ظهرت المأسسة كمفهوم تم تطبيقه في حياة الإنسان، ليتم بذلك تطويع هذا الفرد للعمل ضمن المجموعة، فنشأ الفريق، وتم بث روحه في حياة الفرد، وفي نمط حياة المجتمعات كذلك، وليعمل بذلك الفرد داخل الدائرة التكاملية، والتي يقوم كل عنصر فيها بمهمة جزئية ضمن الإطار العام، فإن اختل هذا العنصر الجزئي فقد اختلت المنظومة.

ولم يكن الإعلام بمنأى عن هذا الأمر، فمنذ بداية ظهور الحضارات بمعناها، وقيام الدول ذات الشأن والأثر، أدخل الإنسان الإعلام في سياق المؤسسة، وضمن نطاق مجموعة العمل القائمة على روح الفريق، وما نشوء دواوين الكتابات والرسائل، بتعدد وسائلها وطرائق الإيصال فيها، وذلك في كنف الإمبراطوريات والدول المتعاقبة إلا خير مثال.
ولذا، فلم يكن الإعلام بمعزل عن هذا، فقد تمت مأسسته، وأصبح العمل فيه ذا منظومة، تدار بروح الفريق القائم على توزيع المهام، وليشتمل بهذا على الجزء الصغير المهم، والذي يكوّن الكل، شأنه في ذلك شأن غيره من مجموعات العمل والإنتاج الحضارية الأخرى.

وبالقفز على مراحل التاريخ المختلفة والمتباعدة، وبالمرور السريع على التفاصيل التي لا تحصى، وذلك في ترتيب العمل الإعلامي على نسق المنظومة، فقد كانت الكتابة أول شيء تم تنظيمه من وسائط الإعلام، وذلك بإدخالها في إطار المؤسسات؛ لتنشأ بذلك دور الصحافة الطابعة والناشرة، وليتم أيضاً بعد ذلك تنظيم عمل التقنيات الإعلامية الجديدة في حينها، لتدخل هي أيضاً في نطاق المؤسسة - بل إن بعضها بدأت ووجدت كمؤسسة؛ وذلك لطبيعتها التقنية، والمخالفة لطبيعة الكتابة في فردانيتها أولاً – فتم بذلك تنظيم عمل (الراديو)، وكذلك التلفاز من بعده، فلم تعرف إلا عن على نطاق المؤسسة ووجهها التنظيمي.

واليوم؛ ومع ظهور التقنيات والأدوات الجديدة، والتي تنطوي جميعاً تحت مظلة وجه الإعلام الأضخم، ووسيطه المخيف: (الإنترنت)، سواء من الصفحات الأساسية في مهد الانطلاقة، ثم ما تبعها من الأجيال التقنية المتلاحقة، وصولاً إلى المدونات ومواقع التواصل، ومع الترقب الدائم، واستشراف التقنيات القادمة، فإن الإعلام بذلك يعود إلى صفته الفطرية الأولى، ودون انتباه كثير من صناعه، وذلك في خضوعه للفرد أولاً من جديد، ومن ثم خلعه لعباءة المؤسسة وتقاليدها الراسخة العتيقة، تلك التي لم تمس لأجيال وحضارات خلت.
فلم يعد لهذا الإعلام في كثير من تطبيقاته مؤسسة تأطّره، ومنظومة بمعناها المتفق عليه؛ وذلك كي يتم التنسيق من خلال إطارها ومبادئها، وليصبح كل فرد بذلك متلقياً ومرسلاً معاً، وليصبح هذا الفرد أيضاً هو الفريق، ومن ثم يرتقي ليكون هو المؤسسة والمنظومة كاملة أيضاً، وذلك في اختزال مخيف في سرعته للجهود الجبارة المبذولة سابقاً، والتي لم يتوقع لها أن تفضي ببساطة إلى شخص هذا الفرد الوحيد.

وما هذا كله إلا بسبب الإمكانات التي أتاحتها التقنية في تطبيقاتها المتعددة والمتجددة، والتي غيرت قواعد المعادلة كاملة من حيث التأثير، ذلك الذي يعد غاية الإعلام الأولى دوماً، ولتطرح بذلك كثيرٌ من الأسئلة حول قدرة المؤسسة الإعلامية الآن على تقديم تفسير لسبب وجودها، ومن ثم الصمود بعد ذلك، ولتطرح بذلك أسئلة فلسفية أخرى تدور حول قضايا المبادئ والغايات، وكذلك دهاليز المسؤولية والحرية، وما شابه ذلك من مفاهيم وأطروحات لا تقبل إغلاق النقاش السهل.

ولقد حاولت المؤسسة اللحاق بالأمر، وبذل الجهد لإدراك هذا الفرد الإعلامي الذي يركض وحيداً سابقاً لها، فأصدرت لذلك القواعد المنظمة، وكونت لها تمثيلاً كـ(مؤسسة) على المنصات (الفردية) في أصلها، وذلك في محاولة لإنقاذ المؤسسة كمفهوم عمل إعلامي في مقابل الفرد، ولكن ما يزال الأمر بعدُ محل نقاش واختلاف لا ينتهي.
بل لقد وقعت المؤسسة الإعلامية ذاتها ضحية لهذه المنصات الفردية الجبارة، فلم تعد كثير من المؤسسات التي تستهلك الأرقام المليارية في تشغيلها، تملك التأثير الذي يملكه فرد واحد مؤثر على منصة إعلامية مجانية قائمة على إعلاء شأن الفرد، وانسحب هذا كله أيضاً على مكملات صناعة الإعلام؛ مثل أشكال الإعلان التسويقي وما شابه.

وخلاصة القول على عجل؛ ليتم إيضاح الفكرة اليسيرة على اتساعها في هذا النص، يتلخص في أن الإعلام واقع الآن في قنطرة الشد والجذب، وذلك ما بين المؤسسة والفرد، وما استغناء المؤسسة الإعلامية بجميع صورها في جميع دول العالم عن كثير من متعلقاتها، وذلك كالطباعة الورقية على سبيل المثال في الصحف، وتخفيض ساعات البث الأصلية في القنوات التلفزيونية والإذاعية – إلا ما كان منها بمقابل – وانخفاض جودة كثير من الإنتاج السينمائي أيضاً، إلا دليل صارخ على مرحلة مفصلية قادمة لن يتجاوز الفصل فيها لصالح أحد الطرفين بصورة كاملة عقد السنوات القليلة القادمة.

وما المملكة وإعلامها من هذا كله، إلا جزء حيوي بالغ الأهمية في هذا العالم المعاصر، والكبير الصغير معاً، ولعل في رؤية الوطن الطموحة نحو (2030) خير دليل في أن اعتماد (الرقمنة) وتطبيقاتها، تلك التي يستطيع الفرد الواحد إدارتها بيسر وسهولة، إلا التطبيق الأوضح للمثال المراد توضيحه في هذه المقالة العجلى .

وائل بن عبدالله الشهري - مستشار العلاقات العامة والإعلام بالجامعة – عضو هيئة التحرير
التعليقات
اضف تعليقك
الاسم
البريد الالكتروني
التعليق